الفروق الفكرية بين حضارتي بلاد الرافدين وبلاد النيل وانعكاسها على مفهوم الثورة
قارنة تحليلية بين حضارتي بلاد الرافدين وبلاد النيل تكشف أثر البيئة والأسطورة في تشكيل نظرة الإنسان للحياة والسلطة ومفهوم الثورة، من قلق الرافدي إلى طمأنينة المصري القديم.
تُعدّ دراسة الحضارات القديمة نافذة لفهم الإنسان وموقفه من الحياة والسلطة والوجود، فهي لا تكشف عن أحداث التاريخ فحسب، بل عن فلسفة عميقة صاغتها الجغرافيا والمناخ والدين والأسطورة. وإذا كانت حضارتا بلاد الرافدين وبلاد النيل من أعرق حضارات العالم القديم وأكثرها تأثيرًا في مسار الإنسانية، فإن المقارنة بينهما تكشف عن اختلافات جذرية في نظرة الإنسان للحياة ومفهومه للسلطة وموقفه من الثورة. عاش الرافدي في عالم مفتوح مليء بالمخاطر، يطارده القلق ويهيمن على وجدانه شعور عميق بعدم الأمان، فيما عاش المصري القديم في بيئة مستقرة، يرى فيها الكون متناغمًا وتفيض عليه الطبيعة بنعمة الخصب والوفرة. هذا التباين بين القلق والطمأنينة، وبين الفوضى والنظام، لم يبق حبيس البيئة، بل نسج أساطير الخلق، وشكّل فلسفة الإنسان، وحدّد متى يرى الثورة ضرورة ومتى يعدّها خطرًا على الحياة نفسها.
حضارة بلاد الرافدين: بين قسوة البيئة وهاجس الأسطورة وصراع الإنسان مع الفوضى
لقد ارتبطت نظرة الإنسان الرافدي إلى الحياة بعمق مع أساطيره وموروثه الديني، فالميثولوجيا في بلاد الرافدين لم تكن مجرد حكايات تُروى، بل كانت إطارًا يفسّر من خلاله كل ما يحدث في الطبيعة والمجتمع ويحدد مكانة الإنسان في الكون. ففي الأساطير السومرية والبابلية القديمة، يظهر الإنسان ككائن خُلِق لخدمة الآلهة، يؤدي الأعمال الشاقة التي ملّت الآلهة الصغرى القيام بها، كما تروي ملحمة أتراحاسيس، حيث اجتمعت الآلهة المرهقة من أعمال الري والزراعة وحفر القنوات وشقت الأرض، وقررت خلق كائن جديد يقوم عنها بهذه المهام، فكان هذا الكائن هو الإنسان. وبذلك نشأ الرافدي وهو يشعر بأن دوره في الحياة ليس اختيارًا حرًّا بل تكليف مفروض من قوى عظمى، وأن بقاءه مرهون بأداء هذا الدور على أكمل وجه، وإلا فإنه قد يتعرض لسخط الآلهة أو للفوضى التي تهدد وجوده.
وتظهر هذه الفلسفة في ملحمة جلجامش، حيث تتجلى فكرة هشاشة الحياة أمام الموت والقدر المحتوم، فالملحمة بأكملها رحلة في البحث عن الخلود تعكس وعي الإنسان الرافدي بأن الحياة فانية بطبيعتها، وأن الآلهة هي التي تحدد مصير البشر دون أن تمنحهم سلطة حقيقية على مستقبلهم. وعندما يربط الرافدي الفيضانات المدمرة أو فترات الجفاف أو الهزائم العسكرية بغضب الآلهة، فإنه يتصرف وفق هذا الإطار الأسطوري، فيكثر من الطقوس والقرابين والأدعية، محاولًا أن يسترضي القوى العليا ليحافظ على الحد الأدنى من الاستقرار في حياة يراها معرضة للانهيار في أي لحظة.
لقد شكّل هذا البعد الأسطوري والفلسفي أساس علاقة الإنسان الرافدي بالسلطة أيضًا، إذ لم يكن يرى الحاكم منفصلًا عن النظام الكوني الذي وضعته الآلهة، بل اعتبره جزءًا من آلية حفظ التوازن بين النظام والفوضى. لذلك كان مفهوم الثورة عنده مرتبطًا بأحداث كبرى تهدد بقاء المجتمع نفسه، فلا تُستباح مواجهة السلطة إلا إذا اعتقد الناس أن الحاكم حاد عن طريق الآلهة ولم يعد قادرًا على حمايتهم من القوى التي تحيط بهم. وبهذا المعنى، أصبحت الحياة في بلاد الرافدين دائرة مغلقة من العمل الشاق والخوف المستمر ومحاولة دائمة لدرء الفوضى، يتخللها شعور عميق بالهشاشة أمام قوى كونية لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
حضارة مصر القديمة ونظرتها إلى الحياة
لقد كان البعد الأسطوري في مصر القديمة جوهرًا لفهم الحياة والوجود، فقد عاش المصري القديم وهو يرى أن الكون منظم وفق نظام مقدس لا ينفصل فيه العالم الأرضي عن العالم السماوي، وأن هذا النظام يقوم على مبدأ ماعت الذي يجسد التوازن والعدالة والحق والانسجام الكوني. واعتقد أن كل ما في الحياة من خصب واستقرار ووفرة ما هو إلا نتيجة مباشرة لالتزام البشر والملوك بهذا النظام، وأن أي إخلال به يعني عودة الفوضى، التي كانت تُسمى في الميثولوجيا المصرية القديمة إيسفت، وهي القوة المضادة للماعت والمصدر لكل اضطراب وخراب. ومن هنا نشأت فلسفة كاملة للحياة تنظر إلى النيل وفيضانه والزراعة والدولة كامتداد لإرادة الآلهة وتجليات لحضورها الدائم في حياة البشر.
وقد جسدت الأساطير المصرية هذا الترابط بين النظام الكوني والسلطة السياسية، فالإله رع كان سيد الشمس والكون، ومساره اليومي في السماء يمثل الانتصار المستمر للنظام على الفوضى. وكان الفرعون يُعتبر ابن رع، يحكم الأرض نيابة عن الآلهة ويحافظ على ماعت، وكل عمل يؤديه من بناء المعابد وتقديم القرابين وإدارة شؤون الدولة كان يُنظر إليه باعتباره حماية للنظام الكوني نفسه. وفي الجانب الآخر من الأسطورة، حملت شخصية أوزيريس رمز الحياة المستمرة والتجدد والارتباط بالأرض والخصب، حيث ارتبطت دورة موته وبعثه بموسم فيضان النيل ونمو المحاصيل، فصار حضور أوزيريس في الوجدان المصري رمزًا لاستمرار دورة الحياة تحت رعاية إلهية مباشرة.
هذا الوعي الأسطوري انعكس على موقف المصري القديم من السلطة والثورة، إذ لم يكن يرى الحاكم مجرد رجل يمكن عزله أو تحديه، بل حلقة أساسية في سلسلة كونية تضمن استمرار الحياة كما يعرفها. ولذلك كان أي تمرد أو ثورة يُنظر إليه بوصفه كسرًا لمبدأ ماعت وتهديدًا لاستقرار الكون ذاته، فالثورة ليست مجرد خروج على الحاكم بل خروج على النظام الذي يربط بين السماء والأرض. ولهذا السبب كانت فترات الاضطراب السياسي، مثل عصر الانتقال الأول، تحمل بعدًا مأساويًا في الوعي الجمعي؛ إذ رأى المصريون فيها انعكاسًا لفقدان الماعت وسيادة الإيسفت، وتجلت هذه الرؤية في نصوص الحكمة والشكاوى التي صوّرت الفوضى الاجتماعية والمجاعات والاعتداءات بوصفها نتيجة مباشرة لانهيار النظام الكوني.
لقد عاش المصري القديم إذن ضمن دائرة فكرية وروحية ترى الحياة نعمة مستمرة ما دام الانسجام مع إرادة الآلهة قائمًا، وجعل من الولاء للفرعون وطاعة النظام السياسي امتدادًا طبيعيًا للطقوس الدينية التي تحافظ على توازن الكون. وهذه الرؤية العميقة للحياة والسلطة تفسر لماذا لم تعرف مصر القديمة ثورات متكررة كتلك التي شهدتها بلاد الرافدين، إلا حين فقد المصريون شعورهم بأن الفرعون قادر على ضمان الماعت، فظهرت لحظات اضطراب كبرى انتهت دائمًا بعودة السلطة المركزية لترميم النظام الكوني وإعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي.
مفهوم الثورة في الحضارتين وأسباب اختلافه
لقد كان مفهوم الثورة في حضارتي بلاد الرافدين وبلاد النيل نتاجًا طبيعيًا لنظرتهما المتباينة إلى الحياة والسلطة والكون، فبينما عاش الرافدي في عالم مضطرب محكوم بالقلق والخوف من الفوضى، عاش المصري القديم في بيئة مستقرة تمنحه شعورًا بالرضا والامتنان، وهذا الاختلاف الجذري انعكس على إدراك كل منهما لفكرة الثورة وجدواها ومشروعيتها. ففي بلاد الرافدين، حيث الحياة صراع دائم مع الطبيعة والقدر والتهديدات الخارجية، لم يكن الإنسان ميالًا إلى الثورة بمعناها الواسع كفعل ساعي لتغيير الواقع أو تحسينه، لأن الرافدي آمن بأن العالم محكوم بإرادة الآلهة وأن أي محاولة لفرض إرادة البشر على مجرى الحياة قد تجر عليه فوضى أسوأ من الواقع القاسي الذي يحياه. ومع ذلك، فإن هذه النزعة الحذرة لم تكن تعني استسلامًا مطلقًا، فقد عرف الرافدي أن هناك لحظات يصبح فيها الصمت تهديدًا للبقاء نفسه، وعندها تصبح الثورة ضرورة اضطرارية لحماية المجتمع وإعادة الانسجام مع إرادة الآلهة. ومن هذا المنطلق وُلدت الثورات الرافدية من رحم الأزمات الكبرى التي تهدد بالحياة نفسها، وليس من رغبة في التحرر السياسي أو السعي لمثالية اجتماعية. وتنعكس هذه الرؤية في ملحمة جلجامش حيث تمرّد شعب أوروك عليه في بداية حكايته لم يكن مجرد رفض لحاكم جائر، بل احتجاج على خلل في التوازن بين الملك والمدينة، وهو خلل يمكن أن يجر غضب الآلهة أو يعجل بالفوضى، فكانت الثورة تصحيحًا لمسار الحياة أكثر من كونها تحررًا من السلطة.
أما في حضارة مصر القديمة، فقد شكّل الاستقرار الجغرافي والنفسي والروحي حاجزًا طبيعيًا أمام فكرة الثورة، فالمصري القديم عاش في ظل نظام كوني واضح المعالم يضمن له استمرار الخصب والرخاء ما دام الفرعون قائمًا بدوره في حفظ ماعت، أي النظام والعدالة والتوازن الكوني. ومن هنا كانت الثورة بالنسبة له فعلًا غير مبرر إلا إذا شعر بأن النظام المقدس ذاته قد انهار، لأن أي اضطراب سياسي أو اجتماعي كان يُفسَّر على أنه علامة على اختلال الماعت وسيادة الإيسفت، أي الفوضى والخراب. وحين سقطت الدولة القديمة ودخلت البلاد عصر الانتقال الأول، لم يُنظر إلى الفوضى بوصفها ثمنًا للتحرر أو السعي إلى العدالة، بل بوصفها كارثة كونية تهدد حياة الناس والنظام الروحي للمجتمع معًا. ولهذا السبب لم تعرف مصر القديمة ثورات متكررة كتلك التي شهدتها بلاد الرافدين، بل كانت الثورات فيها استثناءً نادرًا يرتبط بانهيار الدولة المركزية أو المجاعات والأزمات الكبرى، ثم ما تلبث أن تنتهي بعودة السلطة المركزية لترميم النظام واستعادة الانسجام مع إرادة الآلهة.
ومن هنا يمكن القول إن الاختلاف بين الحضارتين في مفهوم الثورة لم يكن مجرد فرق في التجربة السياسية، بل كان تعبيرًا عن فلسفة وجودية كاملة شكّلتها الجغرافيا والأسطورة والدين. ففي بلاد الرافدين كانت الثورة فعلًا اضطراريًا يولد من الخوف من الفناء، أشبه بمحاولة أخيرة لإعادة الحياة إلى مسارها الطبيعي حين يشعر الإنسان بأن السلطة انحرفت عن خدمة الآلهة أو عجزت عن حمايته من قوى الفوضى. أما في بلاد النيل، فقد كانت الثورة انكسارًا للانسجام الكوني نفسه، وتهديدًا لنظام مقدس يربط بين الأرض والسماء، ولذلك لم تكن خيارًا مقبولًا إلا عندما ينهار النظام القديم ويغيب الحاكم القادر على حفظ الماعت، فتغدو الثورة لحظة مؤقتة من الفوضى التي لا يلبث المصري أن يسعى إلى إنهائها بعودة السلطة المركزية وإعادة بناء النظام الكوني الذي يضمن استمرار الحياة كما اعتادها.
المقارنة التركيبية والخاتمة التحليلية
إن التأمل في حضارتي بلاد الرافدين وبلاد النيل يكشف عن لوحة متكاملة من التباينات الفكرية والروحية التي صاغتها الجغرافيا والبيئة الطبيعية وأساطير الخلق وفلسفات الحياة. ففي بلاد الرافدين، حيث السهول المفتوحة بلا حواجز طبيعية والفيضانات غير المنتظمة والهجرات والغزوات المتكررة، نشأ الإنسان وهو يشعر أن حياته سلسلة من التحديات والتهديدات التي لا تنتهي، وأنه يعيش في عالم هشّ لا يمكن الاطمئنان إليه، فانعكست هذه التجربة القاسية في أساطيره التي صورت الآلهة بوصفها قوى متقلبة المزاج، تفرض على الإنسان العمل والكدّ لتجنب غضبها، كما في ملحمة أتراحاسيس وملحمة جلجامش. ومن هذا الشعور العميق بالهشاشة تولدت فلسفة حياة تقوم على الحذر والخضوع المشوب بالريبة، وعلى الإيمان بأن أي اضطراب في النظام السياسي أو الطبيعي قد يكون علامة على خلل في العلاقة مع الآلهة، وبأن الثورة لا تُستباح إلا اضطرارًا عندما يصبح البقاء نفسه مهددًا، فيتحرك الإنسان لا لينقلب على النظام، بل ليعيد التوازن ويستعيد حماية القوى العليا.
وعلى الضفة الأخرى من التاريخ، عاش المصري القديم في واحة كونية من الاستقرار والوفرة، صنعها نهر النيل بفيضانه المنتظم وجغرافيته الحامية التي أحاطت البلاد بالصحراء شرقًا وغربًا والجنادل جنوبًا، فحفظتها من الغزوات وأورثت أهلها شعورًا بالأمان والطمأنينة. في هذا العالم المستقر وُلدت أسطورة ماعت، التي جمعت بين النظام الكوني والعدالة والخصب، وجعلت الفرعون ممثلًا للآلهة وضامنًا لاستمرار الانسجام بين السماء والأرض. ولهذا رأى المصري القديم أن حياته نعمة مستمرة ما دام الولاء للفرعون قائمًا والطقوس الدينية محفوظة، وأن أي تمرد أو ثورة ليس مجرد خروج سياسي بل كسر للنظام المقدس نفسه، ولذلك لم تعرف مصر القديمة الثورات إلا في لحظات انهيار الدولة والمجاعات الكبرى، وكانت تلك الثورات قصيرة وعابرة، لا تهدف إلى تأسيس واقع جديد بقدر ما تسعى إلى إعادة السلطة القادرة على ترميم النظام الكوني.
وهكذا نرى أن الفرق بين الحضارتين لم يكن مجرد اختلاف في التجربة السياسية أو شكل الدولة، بل كان اختلافًا في الرؤية الكونية وفي فلسفة الحياة نفسها. فالرافدي عاش حياة يحكمها القلق والتهديدات، فجعل الثورة فعلًا اضطراريًا ينشأ من رحم الخوف من الفناء، بينما عاش المصري القديم حياة يظللها الاطمئنان والاستقرار، فجعل الثورة خطرًا على الوجود نفسه لا يُقبل إلا حين يغيب النظام الذي يضمن استمرار الماعت. وفي هذا المعنى العميق، يمكن القول إن البيئة الطبيعية وأساطير الخلق والوعي الديني قد نسجت معًا خيوط العلاقة بين الإنسان والسلطة ومفهوم الثورة في كل حضارة، حتى بدت الثورات في بلاد الرافدين تعبيرًا عن محاولة يائسة لاستعادة التوازن مع الآلهة، بينما كانت في مصر القديمة لحظة كونية استثنائية لا يُحتفى بها بل يُخشى منها، إذ ينشد المجتمع العودة السريعة إلى النظام الذي يضمن استمرار دورة الحياة كما عرفها منذ فجر التاريخ.